في صغيري
عشت "ردحاً" من الزمن في إحدى القرى الصغيرة , الصغيرة في الحجم و العدد
و العدة , لكنها كانت كبيرة وحية في ذاكرتي و مخيلتي .
كانت
الصحراء تحيط بها من كل جانب , لم تملك الكثير من الشوارع أو الإشارات الضوئية أو
المحال الكبيرة كانت أو الصغيرة بل كانت قرية "ملمومة" الكل يعرف الكل !
هي
الأخرى لها "خصوصية" تميزها , فالناس رجالاً و نساءً كباراً و صغاراً
كانوا لا يزالون يحتفظون بكثير من ارتباطهم بطبيعتهم , في تعاملهم و تصرفاتهم و
أكلهم و شربهم و هندامهم و الأهم في أرواحهم !
في البيت
المجاور لنا كان هناك ثلاث نساء أمٌ و إبنتيها , لم يكن لهم معيل ثابت أو
"ولي أمر"متواجد , لهم أقارب يكتفون بزيارتهم من وقت لأخر .
و لكن هذا
الأمر لم يكن ذو أهمية كبرى أو يشكل حاجة مصيرية .
"يملكون"
منزلاً جيداً بمقاييس تلك القرية , و دخل معقول من خلال الأنعام التي يملكونها ولم
يكن هذا كل شيء !
كانوا
يملكون"شاصاً" !
أو
بعبارة أدق سيارة دفع رباعي كبيرة الحجم !
لم
يكونوا بحاجة أحد , أو هكذا كان ظاهرياً فكل تكاليف الذهاب لقضاء الاحتياجات
اليومية أو الذهاب بعيداً في الصحراء أو التسوق من أيٍ من محال القرية لا يتطلب
سوى الركوب في سيارتهم الخاصة و الإنطلاق مباشرة !
لم تكن المسألة معقدة أو صعبة عليهم , فالإبنتين غالباً كانوا هم من
يذهب في قضاء الإحتياجات اليومية بقيادة ذلك "الشاص" العتيق .
ولم
يكونوا هم الحالة الشاذة , فغيرهن الكثير يقدن سياراتهن و بكل "أريحية"
في الصحراء أو حتى على إمتداد شوارع
القرية !
و إستمر
الأمر كذلك حتى غادرنا تلك القرية و لم يتغير شيء كثير فلم نسمع أن حدث حادث غير
مألوف بسبب قيادة هؤلاء النسوة بل كانت الأمور تسير بكل سهولة و يسير و حتى لو
"بنشرت" سيارة إحداهن !
ولا أعلم
إذا ما ظلت جارتنا البدوية تواصل قيادة
سيارتها بتلك "الأريحية" في ذلك الزمن أم أن "الخصوصية" قد
شملتها هي الأخرى ! , و أمست الآن من ضمن المشاركين في #قيادة_26اكتوبر .
أو أن
جفاف الصحراء أبعد عنها الصراع بين التيارات المختلفة بين من إختاروا حياة أكثر "تمدن" و لازالت خلف مقود
سيارتها لا تعبئ بشيء من تعقيدات الحياة الأكثر "تحضراً" !
أما آن
لهذا الجدل أن ينتهي ؟
ولا زلنا
بعد هذه العقود الطويلة من تبادل الصراخ و الشتائم قبل النقاش و الحوار الغير مفيد
في مجملة حول هل تقود المرأة سيارتها أو لا ؟
ضاع
الكثير من الوقت و المجهود و "صرف" النظر عن كثير من الأمور الأكثر
أهمية و حيوية و ما يخص مستقبل الأرض و الإنسان لصالح هذا الجدل الذي لا ينتهي .
كان
بالإمكان أن يسير هذا الأمر كما هي الأمور الأخرى في زمن سابق ويتخطى المجتمع هذه
المعضلة قبل عقود طويلة و يكسر الجدران التي صنعها حول نفسه و أحاط بها موضوع
قيادة السيارة كما حدث لتعليم المرأة مثلاً ! .
لكن الصراعات حول مركز السلطة كان لها رأي أخر ,
ثم أصبح هذا الموضوع مجرد وسيلة لشغل الرأي العام عن قضايا أخرى أكثر أهمية و
حساسية .
في
الحقيقة السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحضر قيادة المرأة , ثم لو
شاهدنا تصاريح المسئولين الرسميين لوجدنا أنهم "يرمون" السبب إلى توجهات
المجتمع , و من جهة أخرى نجد أن المجتمع منقسم حول نفسه ولا يوجد وجهة نظر موحدة
فهم ما بين مؤيد و معارض و يعيدون هم بدورهم الكرة إلى الجهات المسئولة ! و هكذا
تتناقل الكرة بين الطرفين بلا نهاية , لازال الأمر كما هو !
6 نوفمبر
.. عندما طارت عائشة في الفضاء !
ربما
أبرز حدث أو تجربة هي تلك التي حدثت في 6 نوفمبر 1990 عندما قامت مجموعه من النساء
وصل عددهن حسب بعض المواقع إلى 47 و باستخدام 13 سيارة جابوا بعض شوارع الرياض في
تحدي لكسر الحظر الحكومي لكن في النهاية إنتهى بهم المطاف إلى التوقيف و كتابة التعهدات و مواجهة العديد
من المشاكل في أعمالهن و خصوصاً الأكاديميات منهن .
وفي
خلفية الموضوع أن البداية كانت مع وصول القوات الأجنبية في خضم حمى حرب الخليج بأعداد كبير لم يعد من
المستغرب مشاهدة المجندات الأمريكيات يقدن السيارات في الصحراء أو المجمعات
العسكرية أو في المناطق السكنية , الأمر الذي سبب بعض الحرج للموقف الحكومي الرسمي
الذي طلب أن تبقى قيادة المجندات الأمريكيات داخل الصحراء أو المناطق العسكرية فقط
.
ولم يكن
الأمر مقتصراً على الأمريكيات فهناك الكثير من العوائل الكويتية اللاجئة قد قامت
بناتهن أو أمهاتهن بالقيادة في شوارع المنطقة الشرقية خصوصاً و المملكة عموماً
الأمر الذي أعاد حسابات الكثير من السيدات و أولهن سيدة قادت هذه الحركة هي السيدة
عائشة المانع .
في يوم
19 أكتوبر عندما كانت عائدة من زيارة للمنطقة الشرقية إلى الرياض طلبت عائشة من
سائقها الرجوع للخلف و تولت هي عجلة القيادة , وقادت بإتجاه الرياض لمسافة 200 ميل
, وكانت تعلمت القيادة عندما كانت طالبة في الولايات المتحدة .
"
كان إحساساً مدهشاَ كما لو كنت أطير في الفضاء "
هكذا
كانت تعبيرها بعد رحلتها المثيرة و الفريدة , عندما عادت حكت لصديقاتها ما حدث في
رحلتها و كيف سمح لها الجنود بالدخول بعد أبرزت لهم بطاقتها الشخصية الذين كانوا
من "البدو" فلم يدهشوا كثيراً كونهم معتادين على هذا المنظر في الصحراء
و القرى الصغيرة .
و بعد أن
تمت المغامرة الجماعية التي إنتهت كما أسلفنا بالإضافة إلى كم كبير من الدعوات و
الصرخات الشامتة و المستنكرة وربما وصلت إلى القذف و السب و الشتم و تدخل عشاق
نظرية المؤامرة !
"إن
ما نمر به هو عقوبة من الله بسبب ما أحدثه هؤلاء العاصيات "
كان صراخ
بعض خطباء المساجد تعليقاً على الحدث وربطاً بين موضوع القيادة و الحرب ! *
قد لا
تكون تلك المغامرة إنتهت كما تمنت صاحباتها لكن تبقى حدث فريد في ظل المكان و
الزمان !
الدعوات
لقيادة #قيادة_26أكتوبر قد تكون أكثر حدة و صدى من نظيرتها التسعينيه و طبعاً الفضل يعود
لتطور الوسيلة الإعلامية .
فكل شيء –
لو حدث – سيكون موثق و مصور و مذاع لكل أنحاء العالم , بل حتى ردة الفعل قد تكون
مختلفة .
هناك
الكثير يجزم على قرب حدوث قرار حكومي يجيز و يعطي المرأة أحقية القيادة في ظل
إنحسار و تغير وجهة نظر الكثير من المعارضين .
لكن
الأهم النتائج المتوقعة لـ #قيادة_26أكتوبر هل ستؤدي لنتائج أفضل من
نظيرتها السابقة في حال حدوثها ولو بشكل جزئي ؟
شاهدنا
الأيام الماضية عدد من النساء قدن سياراتهن في شوارع الرياض بالمزامنة مع الدعوة
للقيادة و شاركن تجاربهن من خلال موقع يوتيوب و أشهرهن بالطبع إيمان الفنجان التي
وردت أنباء عن تعرضها للتوقيف بعد مشاركتها الفديو الخاص بتجربة القيادة هي الأخرى
في يوتيوب .
و وجهة
النظر الحكومية – مرة أخرى – تؤكد على أنة لا يوجد نظام رسمي يمنع القيادة
النسائية , و النظام المروري لا يمنع سوى من لا يوجد لديها رخصة قيادة و بطبيعة
الحال لا يوجد امرأة سعودية تملك رخصة قيادة سعودية , الأمر الذي سيؤدي لتحرير
مخالفة لمن تقود سيارتها لا أكثر .
لكن في
حال تحول الأمر لقيادة جماعية يشارك فيها عدد كبير فربما ستتغير عندها وجهة النظر
الحكومية و وتدخل فيها "حسابات" حكومية أخرى !
وربما
عندها يضيع الموضوع الأساسي و هو القيادة لصالح مواضيع أخرى سيتم إقحامها في صلب
الموضوع و ينتهي الأمر كما حدث في أوائل التسعينيات !
لذلك
المسألة تحتاج وعي و صبر و توعية أكثر لا تسرع و الدخول في صدامات تؤدي إلى تغير
المسار لمسار أخر و لكي لا تنتهي #قيادة_26أكتوبر كما إنتهت 6 نوفمبر !
* بتصرف من كتاب المملكة من الدخل ’ روبرت ليسي